د. صلاح الدليمى يكتب/الغربة الحقيقية: بين غربة الوطن وغربة الصلاح في زمن الفساد

يتأمل الإنسان في مفهوم الغربة، فيجد له معاني متعددة تتشكل بحسب الزمان والمكان وحال النفس. فمن قائل إن الغريب هو من نأى عن وطنه، وآخر يرى أن الغربة الحقيقية هي غربة من فارق أحبابه. لكن أهل الحكمة والبصيرة يرون معنى أعمق للغربة، معنى يتجاوز حدود الجغرافيا والمودة الشخصية ليلامس جوهر الصلاح والالتزام.
غربة الفقد: شهادة إبراهيم الحربي
يقدم الإمام إبراهيم الحربي وصفًا دقيقًا ومؤثرًا للغربة الروحية، غربة تفقد فيها الروح سندها الحقيقي.
يُروى عن أبي الحسن العتكي أنه سمع إبراهيم الحربي يقول لجماعة عنده: “من تعدون الغريب في زماننا؟” وبعد أن ذكر كل واحد شيئًا من المعاني المادية للغربة، أجاب إبراهيم الحربي بما يلامس كبد الحقيقة:
> “الغريب في زماننا رجل عاش بين قوم صالحين، إن أمر بالمعروف آزروه، وإن نهى عن منكر أعانوه، وإن احتاج إلى سبب من الدنيا مانوه، ثم ماتوا وتركوه في غربة مع الهمج والرعاء”
هذه غربة روحانية مُركّبة، حيث يتحول الأنس والسند إلى وحشة وغربة بفقدان المعينين. فالغربة هنا هي غربة النوع والصفة لا المكان. فـ “الهمج والرعاء” هم السفهاء والجهال الذين لا يفقهون قيمه، ولا يناصرون صلاحه، بل قد يكونون سببًا في محاربته أو السخرية منه. هذا هو الغريب حقًا: من فقد لغة التخاطب المشترك على الخير، وعاش وحيدًا يحمل هم الإصلاح بين من لا يطيعه.
الغربة النبوية: بشارة “طوبى للغرباء”
هذا المعنى العميق يتوافق تمامًا مع الوصف النبوي الشريف الذي يحدد الغربة الحقيقية، غربة المنهج والثبات على الحق في زمن الانحراف.
يقول الرسول عليه الصلاة والسلام:
> “أن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء”
وعندما سُئل: “قيل من هم يا رسول الله؟” أجاب:
> “الذين يصلحون إذا فسد الناس”
إنهم القلة المؤمنة التي تتحدى تيار الفساد المنتشر، وتتمثل غربتهم في قلة الموافق وكثرة المخالف.
وقد بيَّنت رواية الإمام أحمد في مسنده حال هؤلاء الغرباء، حيث قال عليه الصلاة والسلام عنهم:
> “قوم صالحون قليل في الناس سوء كثير من يعصيهم أكثر من يطيعهم”>
هم الصفوة القليلة التي تحمل راية الصلاح في مجتمع يغلب عليه السوء، يواجهون تحديًا كبيرًا؛ فالأغلبية لا تطيعهم بل تخالفهم. وفي رواية أخرى، جاءت لتبين سلوك هذه الطائفة الثابتة في المجتمع، حيث قال صلى الله عليه وسلم:
> “لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله”
>
إنها إشارة إلى الثبات والاستمرارية في التمسك بالحق مهما كانت الظروف، فهم كالغرس الصالح الذي يصمد في الأرض القاحلة.
أيام الصبر والأجر المضاعف
ويصف عليه الصلاة والسلام زمن هذه الغربة الشديدة، ويُعلي من شأن وأجر الصابرين فيه بقوله:
> “أن من وراءكم أيام الصبر فيهن مثل القابض على جمرة ، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلًا يعملون مثل عملكم. قيل: منا أو منهم؟ قال: بل منكم”
هذا الحديث يرفع من قدر هذه القلة الصابرة، فصبرهم على الحق في زمن الفتن والفساد، حيث يصبح التمسك بالدين كالإمساك بجمرة ملتهبة، يضاعف أجرهم لشدة المحنة وصعوبة الثبات. إنه تكريم لمن يختار الغربة الإيمانية على الزيغ والاتباع الأعمى.
في الختام، الغربة ليست بالضرورة غربة المكان، بل هي غربة المبدأ حين يتخلى عنه الأكثرون. هي غربة القلب الصالح في بيئة يطغى عليها الفساد. وهي في نهاية المطاف، غربة محمودة؛ لأنها تحمل بشارة طوبى للغرباء الذين يصلحون حين يفسد الناس.