المستشار سعيد الجياشى يكتب:غزة… الإبادة الجماعية التي تُنذر بانهيار النظام الإقليمي

منذ وعد بلفور عام 1917 مرورًا بنكبة 1948 وما تلاها من حروب ومعاهدات، ظلّت القضية الفلسطينية محورًا للصراع العربي–الإسرائيلي، وشاهدًا على فشل النظام الدولي في حماية الحقوق المشروعة للشعوب. وعلى امتداد أكثر من سبعة عقود، رُفعت الشعارات، ودُفعت أثمان باهظة من الدماء، لكن النتيجة النهائية جاءت لصالح مشروع استيطاني تمدّد على حساب الأرض والإنسان، مدعومًا من القوى الغربية الكبرى.
من زمن المواجهة إلى زمن الانكسار
في الخمسينيات والستينيات، تصدّرت “دول المواجهة” مشهد الصراع، لكنها سرعان ما تراجعت تحت وطأة الهزائم والضغوط، حتى وقّعت اتفاقيات سلام هشّة. أما مبادرة بيروت للسلام (2002) التي كانت محاولة عربية جامعة، فقد قوبلت بالاستخفاف الإسرائيلي. وفي الداخل الفلسطيني، تراجع النضال الوطني منذ توقيع اتفاق أوسلو، حيث وُلدت سلطة شكلية ضعيفة سرعان ما غرقت في الانقسام بين تيارات الإسلام السياسي والفصائل الوطنية، فتحولت القضية إلى ساحة تنازع داخلي بدلًا من كونها مشروع تحرر جامع.
الواقع الراهن – بعد 77 عامًا
اليوم، غزة مدمرة بالكامل، شعبها مشرّد وجائع، والعواصم العربية مرتبكة. في المقابل، تُحكِم إسرائيل قبضتها الجوية الكاملة، وتحوّل سماء المنطقة إلى ساحة لأسلحتها وصواريخها الموجهة. لم تعد الهجمات مقتصرة على غزة وحدها، بل امتدت إلى صنعاء، دمشق، جنوب لبنان، والخليج، وصولًا إلى شمال إفريقيا. الرسالة واضحة: الجغرافيا العربية كلها باتت تحت التهديد المباشر.
خطورة اليمين الصهيوني المتطرف
الحكومة الإسرائيلية الحالية، بقيادة اليمين الديني–القومي المتشدد، لا تمثل مجرد إدارة عابرة. إنها حكومة حرب تعمل على ترسيخ سياسة إبادة جماعية مؤسسية، بدعم مباشر من الولايات المتحدة وأوروبا الغربية. الأخطر من ذلك أنها تسعى إلى استثمار الدم الفلسطيني لتكريس نظام عالمي أحادي القطب، تقوده واشنطن عبر الفوضى والردع العسكري.
العجز الدولي والإقليمي
1. الأمم المتحدة ومجلس الأمن أثبتا عجزًا مطلقًا، حتى عن إيصال المساعدات الإنسانية بالحد الأدنى.
2. الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي لم تتجاوز دور المنظمات الأهلية التي تكتفي ببيانات استنكار لا تُغيّر شيئًا.
3. القوى الإقليمية الكبرى (مصر، تركيا، إيران، دول الخليج) عاجزة منفردة عن كسر المعادلة أو فرض ميزان ردع جديد.
ازدواجية المعايير الدولية
المشهد يكشف بوضوح ازدواجية المعايير الغربية: حيث تحركت العواصم الكبرى سريعًا في أزمات أوكرانيا وكوسوفو، لكنها بقيت صامتة أمام صور الأطفال الجائعين والنساء القتلى في غزة. هذه الازدواجية لم تدمّر فقط مصداقية القانون الدولي، بل هددت الأمن العالمي، إذ يُنذر استمرار المجازر بموجات تطرف، وهجرة جماعية، وزعزعة للاستقرار تمتد إلى أوروبا والعالم.
الخيار الوحيد – الوحدة الاستراتيجية
لم يعد أمام العرب والمسلمين سوى خيار صعب لكنه حتمي: بناء موقف موحد وفاعل. قرار استراتيجي يستثمر أوراق القوة السياسية والاقتصادية مع الغرب، ويحوّلها إلى أداة ضغط حقيقية لإيقاف آلة الحرب الصهيونية. إن أي تهاون في هذا الاتجاه سيجعل العواصم العربية تسقط تباعًا كما أحجار الدومينو، ويترك مستقبل الأمة رهينة لمعادلات القوة الصهيونية–الأمريكية.
الخاتمة – الدرس من غزة
غزة اليوم ليست مأساة فلسطينية فحسب؛ إنها إنذار استراتيجي. الطفل الذي يموت جوعًا تحت أنقاض غزة قد يكون صورة استباقية لما قد تشهده مدن عربية أخرى إن لم يتغير المسار. نحن أمام عودة لحقبة الإبادة الجماعية في القرن الحادي والعشرين، لكن هذه المرة بغطاء دولي كامل وصمت عالمي مريب.
الخلاصة: إن لم يُبادر العرب والمسلمون إلى موقف موحّد وجاد، فإن غزة ستتحوّل من مأساة محلية إلى محطة مفصلية تعيد رسم خرائط المنطقة على أنقاضنا جميعًا.